
تلك النفس الحيَّة التي لا ترضى بالدون، ولا تسكن إلى الخطأ، بل تُراجع، وتُحاسب، وتعود، إنها مرحلة من أنبل مراحل ارتقاء الإنسان في مدارج الإيمان والوعي.
ونحن نسميها في زمننا (الضمير)؛ فلان عنده ضمير؛ أي: نفسه لوَّامة.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم:
﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ [القيامة: 1، 2].
أقسم الله بها، وهذا القسم في القرآن ليس عبثًا، بل تعظيم لشأنها؛ فالنفس اللوامة ليست ضعيفة، بل هي ضمير يقظٌ، يذكِّر الإنسان بخطئه، ويُوقظه من غفلته، ويقوده نحو التوبة والإصلاح.
النفس اللوَّامة ليست النفس المعذِّبة التي تُغرق صاحبها في جَلد الذات، بل هي النفس التي تلوم لتصلح، لا لتُحبط، تلوم لتذكِّر بأن الإنسان خُلق ليرتقي، لا ليبقى أسير الزَّلة، فشتَّان بين اللوم البنَّاء الذي يُعيد التوازن، وبين اللوم الهدَّام الذي يزرع الندم واليأس.
قال ابن كثير: عن الحسن البصري في هذه الآية: إن المؤمن – والله - ما نراه إلا يلوم نفسه، يقول: ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ وإن الفاجر يمضي قُدمًا ما يعاتب نفسه.
والمؤمن يُفتن وينسى لا محالة، ولكنه يعود إذا ذُكِّر بالله؛
قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبدٍ مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق، وإن المؤمن خُلِق مُفتنًا توَّابًا نسَّاءً، إذا ذُكِّر ذَكَرَ))؛ [رواه الطبراني والبيهقي، والحديث صحيح].
في حياتنا المعاصرة، حيث كثُرت المُغريات وتسارعت وتيرة الحياة، أصبح صوت النفس اللوامة هو صوت الفطرة وسط الضجيج، هو ذاك النداء الخافت الذي يذكِّرك: "ليس هذا أنت"، حين تبتعد عن قيمك ومبادئك.
ولذلك، فإن وجود هذه النفس في داخل الإنسان علامة حياة روحية، ومؤشر على أن الإيمان لم يمُت في القلب بعدُ، وأن الضمير ما زال يعمل.
النفس اللوامة – إذًا - هي الميزان الداخلي الذي يُعيدك إلى الجادة كلما انحرفتَ، وهي التي تصنع منك إنسانًا نبيلًا، لا يبرِّر أخطاءه، بل يتعلم منها.
وفي زمن تغيب فيه المحاسبة الذاتية، يصبح إحياء النفس اللوامة ضرورةً أخلاقية وروحية، فمحاسبة النفس هي التي تحفظ الإنسان من الانزلاق الأخلاقي، ومن التبلُّد القِيمي، ومن أن يكون تابعًا لهواه.
فطريق الطمأنينة يبدأ من لحظة الصدق مع النفس، والجرأة على الاعتراف بالخطأ، والرغبة الصادقة في الإصلاح.
فما دمتَ في راحة ونعمة، فالزم طاعة الله وتعرَّف على الله في الرخاء حتى يعرفك في الشدة، وإياك أن تنتظر حتى تلزم باب الله بسبب بلاء أو امتحان عظيم.
والمتأمل في كتاب الله كم يجد من آيات تخبرنا عن ندامة ابن آدم! ففي أكثر من 45 آية ذُكرت ندامة الإنسان؛ منها:
﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 27].
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾ [الفجر: 24].
﴿
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [الملك: 10].
فالإنسان لا بد نادم يوم القيامة؛ كما رُوي في الحديث عند الترمذي مرفوعًا عنه
صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد يموت إلا ندم، قالوا: وما ندامته؟ قال: إن كان محسنًا ندم ألَّا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا، ندم أن يكون نزع))؛ [والحديث حسنه ابن حجر].
النفس اللوامة ليست مرحلةَ ضعف، بل قوةٌ في الوعي، ونضج في الإيمان، وصدق في المسيرة نحو الله.
نحن نعيش اليوم في زمنٍ تداخلت فيه المعايير، وتكاثرت المؤثرات، وأصبح الإنسان يحاصَر من كل جانب بصورٍ، وأفكار، ومغريات تحاول أن تعيد تشكيل ضميره وهويته، وفي خضم هذا الزخم، تظهر النفس اللوامة كحارس داخليٍّ يحمي إنسانيتنا من الذوبان.
حين تنشر شيئًا على وسائل التواصل ثم تشعر بعد دقائقَ أن في منشورك رياءً أو تجريحًا لأحد، فتندم وتحذفه، فاعلم أن النفس اللوامة قد نبَّهتك.
وحين تغريك لذة المال أو المنصب أن تتنازل عن قِيمك، ثم يضطرب قلبك، ويذكِّرك أن الحلال بركة، فهذه هي النفس اللوَّامة تعمل في داخلك.
وحين تضعُف أمام الشهوة أو الغضب، ثم يوجعك الضمير بعد ذلك، فتستغفر وتستقيم، فهذه النفس التي تلوم لتُطهرك وتُعيدك إلى صفاء قلبك.
إن بناء النفس اللوامة في داخلنا يحتاج إلى ثلاثة أركان:
1. الصدق مع النفس: أن تعترف بخطئك دون تبرير.
2. المراجعة اليومية: كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا".
3. العودة إلى الله بلا تأجيل: لأن التأجيل يُميت الإحساس، والنفس اللوامة لا تحيا إلا بالقرب من الله.
اللهم أحيِ فينا ضمائرنا، واجعلنا من الذين إذا أذنبوا استغفروا، وإذا أخطؤوا عادوا، وإذا لاموا أنفسهم أصلحوا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
د. ثامر عبدالمهدي محمود